30 - 04 - 2024

عون بعد عون

عون بعد عون

لا أحد يتصور فى لبنان ولا فى خارجه ، أن عون سينقلب على عون ، الأخير هو ميشيل عون رئيس لبنان الحالى ، والأول هو العماد جوزيف عون قائد الجيش ، وليس بينهما نسب عائلى ، كما يوحى اشتراك اللقب ، وقد تولى جوزيف عون قيادة الجيش منذ نحو أربع سنوات ، وهو عسكرى محترف ، بدأ سلم الجيش من قاعدته ، حين تطوع شابا للعمل كجندى نهاية ستينيات القرن العشرين ، وظل يتعلم ويترقى وصولا إلى مقعد القيادة ، الذى يحجز عادة لضابط مارونى ، كما تقضى المحاصصات الطائفية ، وقد خرج جوزيف أخيرا عن صمته العسكرى ، وهو يشهد لبنان يتردى إلى قاع الجحيم ، ورفض أن يقمع المحتجين الثائرين فى شوارع الغضب ، وامتنع عن تنفيذ أوامر الرئيس بفتح الطرق عنوة ، وفضل أن يتفاهم مع الغاضبين ، وأن يقنعهم بفتح بعض الطرق فى بيروت وما حولها ، ثم ذهب العماد جوزيف عون إلى آخر مدى يستطيعه ، و"بق البحصة" التى فى فمه ، وقال أنه حذر مرارا من خطورة الوضع ، وسأل المسئولين المعنيين "على وين رايحين ؟" ، ربما من دون أن ينتظر جواب الرئيس عون ، الذى سبق أن رد على السؤال نفسه قبل شهور فى مؤتمر صحفى ، وقال وقتها بالنص "رايحين على جهنم" (!) .

وبالطبع ، لا يتوقع أحد انقلابا عسكريا يديره العماد جوزيف عون ، هو فقط أراد أن يوصل صرخته الأخيرة علنا ، وأن يفسر سبب رفض الجيش قمع المتظاهرين ، الذين تجددت نوبات غضبهم المتصلة منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 ، ووصل بهم الغضب إلى أقصاه مما يجرى ، ويهدد سلامة ما تبقى من الكيان اللبنانى نفسه ، وسط تدهور مريع فى الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، تدنى بقيمة الليرة اللبنانية إلى 11 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد ، وربما تنزل إلى  13 ألفا قبل أن تنتهى من قراءة هذا المقال ، وقد نزل أكثر من نصف الشعب اللبنانى إلى ما تحت خط الفقر ، وربما ينزل ثلثا الشعب قريبا إلى الهاوية نفسها ، مع تكدس ديون مفجع ، وعجز لأغلبية اللبنانيين عن مواصلة تراجيديا البقاء على قيد الحياة ، فكل يوم لبنانى هو فى شأن أسوأ مما قبله ، على ما يبدو من فيديو راج على نطاق واسع ، يصور حربا أهلية مصغرة على كيس حليب فى أرقى مناطق بيروت ، وهو بؤس لم ينج منه إلا محاسيب أمراء الطوائف الوارثين لحكم لبنان ، وقد استنزفوا البلد ، واعتصروه فسادا ونهبا ، وتكفى ثروة الواحد منهم لحل مشاكل اللبنانيين جميعا ، وهم لا يبالون بما جرى ويجرى ، ولم ينجحوا حتى فى تشكيل حكومة جديدة منذ شهور ، كلفوا بها سعد الحريرى الزعيم الأبرز فى الطائفة السنية ، ومن دون أن ينتقل خطوة واحدة من التكليف إلى التأليف ، بسبب اشتراط الرئيس عون الحصول لجماعته على ما يسمى "الثلث المعطل" ، وعون يبرئ نفسه ، وينسب التعطيل إلى الحريرى ، فيما يتفنن نبيه برى الزعيم الشيعى رئيس مجلس النواب ، ويقدم اقتراحات بتدوير الزوايا ، لم تصل بعد إلى حل ناجز ، فيما رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يرفع راية الاستسلام ، ويرغب بما أسماه "اعتكافا" ، وإلى أن يتوافق الحريرى وعون ، ويقدمان الهدية للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ، الذى وعد بتقديم مساعدات مالية إن شكلت "حكومة المهمة" الموعودة .

والعماد جوزيف عون ينطق بلسان الحال ، ويوجه الخطاب لحضرات المسئولين ، ويسألهم ببساطة "ماذا تنوون أن تفعلوا ؟" ، فالجيش والشعب فى المأساة نفسها ، ولا يعقل أن يضرب الجنود الجائعون أقرانهم من المتظاهرين الجائعين ، فقد تبخرت قيمة رواتب العسكريين كالمدنيين ، وفقدت ميزانية الجيش الضئيلة قيمتها الفعلية ، ولم يعد بوسع الجيش سوى أن يتلقى معونات أجنبية ، تسد بعض رمقه واحتياجاته ، ولا يستطيع أن يتحرك لإصلاح ، ولا أن ينفذ انقلابا ، لن يبقيه فى السلطة ليوم ولا لبعض يوم ، فأمراء وملوك الطوائف ، يملكون السلطة كلها ، وتوازنات الجيش الطائفية ، تحجزه عن فرصة عمل سياسى موحد ، وأمراء الطوائف اتخذوا لأنفسهم أزياء عصرية ، فى صورة أحزاب ودساتير ومواثيق وانتخابات وهيئات ، جعلت الدولة فى لبنان أشبه بشركة مساهمة ، لكل طائفة فيها سهم معلوم ، وثورات الشعب اللبنانى فشلت فى إزاحة جبال الهم ، ووضعوا فى مواجهتها انقسام الشوارع الطائفية ، التى يتحصن بها الرئيس عون باسم حقوق المسيحيين ، وباسم حقوق الطائفة المارونية ، التى تزايدت فيها الشروخ ، وعجز البطريرك المارونى بشارة الراعى فى الوساطة بين الحريرى وعون ، ثم أخذ الأمر فى يده ، استنادا إلى ثقله الدينى ، وطالب بمؤتمر دولى ينتهى إلى إعلان "حياد لبنان" عن كل ما حوله ، وشن حملة ضارية على ما يسميه "السلاح غير الشرعى" ، فى إشارة إلى سلاح "حزب الله" ، وهو ما استفز احتقانا طائفيا مقابلا ، يهدد بقاء الكيان اللبنانى على علاته ، ويضرب فأسا فيما تبقى من جذور سلام لبنان ، وبما يستدعى أشباح خطر ماحق ، قد ينزلق بلبنان مجددا إلى حافة احتراب أهلى .

وقد لا يخفى على أحد عاقل ، أن دفع لبنان إلى حرب أهلية جديدة ، فوق مآسى التجويع والتدمير ، هو الرابط الجامع بين المتربصين بلبنان ، بدءا من كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وإلى المطبعين والمتحالفين معه خليجيا ، وبدعوى تعبئة الشعب اللبنانى ضد سلاح "حزب الله" الموالى لإيران ، ولعجزهم عن تدمير إيران ، أو دفع الراعية أمريكا للقيام عنهم بالمهمة ، فإنهم يلجأون إلى خيار إنهاك لبنان الصغير ، وحجب أى عون عنه ، وتركه يحترق داخليا ، وهذه خطط مرئية معلنة ، وليست مجرد مؤامرات فى طى الكتمان ، وهى المعطل الخفى الظاهر لأى جهد يسعى لإنقاذ لبنان ، سواء من داخله بانتفاضات الطموح لتأسيس دولة مدنية على أساس المواطنة لا محاصصات الطوائف ، أو من خارجه بجهد المقل من أطراف عربية ، تدرك أن دمار لبنان لا قدر الله ، يعنى نكبة عربية قاصمة للظهر ، تضاف لنكبة فلسطين ودمار العراق وسوريا واليمن ، وجريمة هذا البلد الصغير الجميل عند من يريدون تدميره ، أنه أنجب مقاومة وضعت أنف إسرائيل فى الركام ، وأرغمتها على الانسحاب الذليل من الجنوب اللبنانى ، وشكلت قوة الردع العربية الباقية الوحيدة ضد إسرائيل فى المشرق العربى ، وصحيح أن إيران هى التى دعمت "حزب الله" بالسلاح والمال ، وصحيح أن إيران مدت نفوذها الثقيل عبر "حزب الله" إلى شواطئ البحر المتوسط ، لكن الصحيح أيضا ، أن إيران توحش دورها مع غياب أى مشروع عربى مقابل ، وأن عجز العرب وتبعيتهم المزمنة لأمريكا وخضوعهم لإسرائيل ، هو الذى زاد توسع إيران ، التى يريد البعض جعلها العدو الأول للعرب بدلا من إسرائيل ، التى صارت صديقا وحليفا وآمرا لنظم عربية بليدة متكاثرة كالفطريات ، وكأن العروبة فى ظنهم هى طاعة إسرائيل فى المنشط والمكره، وكأن بنيامين نتنياهو عندهم هو الزعيم الجديد للقومية العربية ، وهو سفه لو تعلمون عظيم ، يغرى أثرياء البترول بخنق لبنان ، وتقديمه قربانا على مذبح إسرائيل (!) .

وقد يكون تشكيل حكومة لبنانية جديدة ، إن تشكلت ، مانعا موقوتا لصواعق حرق لبنان ، واستعادة للحد الأدنى من فرص بقاء الكيان اللبنانى على هشاشته ، وإن كانت الصيغة اللبنانية سوف تبقى دائما فى خطر ، ما لم يتم التحول إلى نظام وطنى مدنى بديل عن النظام الطائفى المهترئ ، الذى لا يليق بحيوية لبنان الأكثر نضجا عربيا ، والصورة الأفضل قد يطول زمان الوصول إليها ، خصوصا مع شراسة هجمات المتربصين ببقاء لبنان من الأصل ، وربما تكون الضمانة الأهم لسلامة لبنان فى هذه المرحلة ، أن يبقى الجيش اللبنانى على ضعفه موحدا ، وأن يبقى على حسه الوطنى الجامع ضد التهديدات الإسرائيلية ، وفى السلوك اللافت لقائده الحالى العماد جوزيف عون ، ما قد يذكرنا بأدوار تاريخية ناصعة لقيادات الجيش اللبنانى ، بينها موقف الجنرال فؤاد شهاب ، الذى رفض تنفيذ أوامر الرئيس كميل شمعون بقمع انتفاضة 1958 ، وصار بعدها شهاب رئيسا للبنان فى أزهى فتراته ، قبل أن يتفتت الجيش ، وتدور الحرب الأهلية ، التى بدأت أواسط السبعينيات من القرن الفائت ، وبعد توقف الحرب باتفاق الطائف ، صار الجيش موردا غالبا للتوافق على اسم الرئيس المارونى ، وعلى طريقة ما جرى لقادة جيش سابقين ، صاروا رؤساء للبنان مع تغير الظروف ، مثل الرؤساء إميل لحود وميشيل سليمان وميشيل عون الرئيس الحالى ، وقد لا يستبعد أن يأتى جوزيف عون للرئاسة بعد ميشيل عون.
---------------------------
بقلم: د. عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حرب الاستنزاف الأوكرانية





اعلان